رأينا في المقالات السابقة كيف يعظم المؤمن من الأزمان والأماكن والأشخاص ما عظمه الله وباركه من مخلوقاته، وعلمنا أنه ينطلق في ذلك العقيدة من كون أن الله سبحانه وتعالى هو المعظم الحقيقي وليست هناك عظمة ذاتية لأحد من خلقه، وإنما ما منحه الله العظمة من خلقه والبركة واختار له ذلك نعظمه لتعظيم الله له، ولأنه سبحانه أمرنا بتعظيم، والعظمة في الأول والآخر لله وحدة لأن في تعظيم هذه الأشياء تعظيم الله وطاعة له.
وفي هذه المرة نرى كيف يعظم المسلم من عالم الأشياء الأشياء التي عظمها الله سبحانه وتعالى، هذا الشيء هو من أقدس مقدسات المسلمين هو المصحف الشريف، هو كتاب الله الذي حوى كلامه المنزه القرآن الكريم، فما هو القرآن الكريم الذي كتب في هذا المصحف ؟
القرآن الكريم هو كلام الله المنزل على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته، المجموع في المصحف الشريف المعروف، الذي يفتتح بسورة الفاتحة ويختتم بسورة الناس، ونص القرآن الأصلي باللغة العربية، وهو الكتاب الخاتم والعهد الأخير للبشر الذي نزل على خاتم النبيين، ونزل القرآن منجما على مدى 23 عاما منها 13 عاما في مكة و10 أعوام في المدينة.
والقرآن الكريم مكون من وحدات منفصلة تسمى كل وحدة «سورة» وتتكون السورة من مقاطع كل مقطع منها يسمى «آية» ونزل قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم 86 سورة تسمى سورة مكية، وبعد الهجرة 28 سورة تسمى مدنية، وإجمالي عدد سور القرآن الكريم 114 سورة.
وعدد آيات القرآن الكريم 6236 آية بغير احتساب البسملة وهي ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ في 112 سورة، لأن البسملة آية محسوبة من سورة الفاتحة، وسورة براءة [التوبة] لا تبدأ بالبسملة، وباحتساب البسملة في بداية كل السور عدا سورة براءة يكون عدد الآيات 6348.
وجذور القرآن نحو 1810 جذور تمثل جذور الكلمات القرآنية، في حين أن معجم لسان العرب لابن منظور يشتمل على نحو ثمانين ألف جذرًا، أي أن جذور القرآن تمثل نحو اثنين في المائة (تماماً 2.25%) من العربية، وعدد كلمات القرآن الكريم 77934 كلمة، منها 1620 كلمة لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة، ويقول بعضهم إن الأديب الروسي تولستوي لم يكرر 4 كلمات في كتابه الحرب والسلام، فعُد ذلك من بلاغته وتمكنه اللغوي، فإذا صح ذلك، فإن هذا التفرد في القرآن الكريم بهذا العدد الضخم من الألفاظ غير المكررة يكون معجزة بمعنى الكلمة. تضاف إلى وجوه إعجازه التي تخرجه عن نظام كلام البشر. وعدد حروف القرآن 323670 حرفا،.
وقد تختلف هذه الأرقام قليلا في إحصائيات أخرى وذلك يرجع لاختلاف العلماء في تحديد مفهوم الكلمة أو الحرف، ومواضع رؤوس الآيات، فمنهم مثلا من احتسب البسملة ضمن الحروف والكلمات ومنهم لم يحتسبها.
وأول ما نزل من القرآن الكريم سورة العلق، وآخر ما نزل من السور سورة النصر، وآخر ما نزل من آيات قوله تعالى : ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة :281].
وأطول سورة في القرآن الكريم سورة البقرة وعدد آياتها 286 آية، وأقصر سورة هي الكوثر وعدد آياتها 3 آيات، وأطول آية في القرآن الكريم آية الدين في سورة البقرة رقم (282)، وأقصر آية قيل هي ﴿يس﴾ أول آية في سورة يس أو ﴿حم﴾ أول آية في سور [غافر-فصلت-الشورى-الزخرف-الدخان-الجاثية-الأحقاف] أو ﴿طه﴾ الآية رقم 1 في سورة طه، وهذه باعتبار كتابتها أم نطقها فهي كلمتان، فمثلا ﴿حم﴾ تقرأ «حا-ميم»، وأما الآية التي تتكون من كلمة واحدة كتابة ولفظا والتي تعد أقصر آية من هذه الجهة هي الآية رقم 64 في سورة الرحمن ﴿مدهامتان﴾. وأطول كلمة في القرآن الكريم لفظا وكتابة هي ﴿فأسقيناكموه﴾ وهي أحد عشر حرفا وهي في الآية 22 من سورة الحجر، قال تعالى : ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ [الحجر :22].
وترتيب المصحف الموجود بين أيدينا هو ما رتبه النبي صلى الله عليه وسلم وهو ليس ترتيب النزول، بل ترتيب توقيفي لا اجتهاد فيه فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرشد الكتبة فيقول اجعلوا آية كذا بعد آية كذا في سورة كذا، حتى رتب المصحف بهذا الشكل الذي جمعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وقد جاء القرآن ليهذب لغة العرب التي كانت مليئة بالغرائب ووحشي الكلام، وأذكر شعر ابن المطهر الحلي حيث يقارن بين القديم والجديد في لغة العرب، ويظهر من ذلك مدى تهذيب القرآن للغة العرب.
ويقرأ القرآن الكريم بعشر قراءات متواترة، لكل قراءة روايتان فيكون المجموع 20 رواية للقرآن الكريم تحكي 10 قراءات، وكل هذه القراءات ثابتة عن النبي r ونزل بها القرآن من عند الله قرأها جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أشكال الاختلافات في هذه القراءات تخفيف الهمزة، الإمالة، المدود، الإشمام وكلها مصطلحات يعرفها علماء التجويد.
وهذه القراءات العشر هي :
- قراءة الإمام نافع المدني (ت 169) : رواها عنه عيسى بن مينا: (قالون)، عثمان بن سعيد المصري: (وَرش).
- قراءة الإمام عبد الله بن كثير المكي (ت120): رواها عنه أحمد بن عبد الله بن أبي بزة (البزي) محمد بن عبد الرحمن المكي (قنبل).
- قراءة الإمام أبي عمر بن العلاء البصري (ت154): رواها عنه حفص بن عمر (الدوري) وصالح بن زياد الرستبي (السوسي).
- قراءة الإمام عبد الله بن عامر اليحصبي الشامي (ت118): رواها عنه: هشام بن عمار الدمشقي، وعبد الله بن أحمد بن ذكوان.
- قراءة الإمام عاصم بن أبي النجود الكوفي (ت129): رواها عنه أبو بكر بن عياش الكوفي (شعبة)، حفص بن سليمان الغاضري.
- قراءة الإمام حمزة بن حبيب الزيات الكوفي (ت156):رواها عنه خلف بن هشام بن ثعلب البزار، وخلاد بن خالد.
- قراءة الإمام علي بن حمزة الكسائي الكوفي (ت189): رواها عنه أبو الحارث الليث بن خالد البغدادي، وحفص بن عمر الدوري رواي أبي عمر البصري.
- قراءة الإمام أبي جعفر يزيد بن القعقاع المدني (ت130): رواها عنه عيسى بن وردان أبو الحارث الحذاء، وسليمان بن مسلم بن جماز.
- قراءة الإمام يعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري (ت205): رواها عنه محمد بن المتوكل (رُوَيْس)، ورَوْح بن عبد المؤمن.
- قراءة الإمام خلف بن هشام البزار الكوفي (ت229): رواها عنه: إسحاق بن إبراهيم بن عثمان، وإدريس بن عبد الكريم الحداد.
والمشهور من القراءات ثلاثة : عاصم ونافع وأبو عمر، وخاصة رواية حفص لعاصم، ورواية قالون لنافع في ليبيا، وورش لنافع كذلك في دول المغرب العربي، رواية الدوري لأبي عمرو في السودان والصومال وحضرموت.
فرواية حفص عن عاصم تنتشر في معظم الدول الإسلامية لا سيما في المشرق، ورواية قالون في ليبيا تونس وأجزاء من الجزائر، ورواية ورش في الجزائر والمغرب وموريتانيا ومعظم الدول الإفريقية، ورواية الدوري عن أبي عمرو في السودان والصومال وحضرموت في اليمن
ولذا كانت عموم المصاحف التي طبعت في أنحاء العالم الإسلامي كانت وفقا لقراءة عاصم برواية حفص، وكذلك بعضها بقراءة نافع برواية ورش وقالون، ولكل رواية طرق وهي تتعدد وتصل إلى 100 طريق لكل رواية، ولذا اكتفينا بذكر القراءة والرواية
هذه معلومات عن القرآن الكريم الذي كتبه المسلمون وطبعوه في المصحف الشريف المعروف الموجود بين أيدينا، فترى المسلمين في شتى بقاع الأرض يقدسون المصحف، وتراهم يضعونه فوق الكتب، ويتطهر لمجرد مسه مصداقا لقوله تعالى : ﴿لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة : 79]، ويعلمون أن النظر فيه عبادة لأنه يشتمل على كلام ربنا، ويقرأونه بطريقة توقيفية معينة فلا يقرأ كأي كلام، ولا يتعاملون مع كأي كتاب. وإذا سمعوه استمعوا إليه واتعظوا بما فيه.
ويعظمون من عالم الأشياء كتب السنة التي ضمت أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أنها تحوي الوحي الثاني والمصدر الثاني للتشريع، فيتعلمون منها ويتعبدون بها ويتبركون بها لأنها كلام خير البشر.
وقد بذل المسلمون جهدا مبدعا وغير مكرر في توثيق كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فأنشئوا علوما كثيرة، ولم يحدث مثل ذلك أبدا لأي نبي أو مفكر أو عالم أو شاعر أو أديب في تاريخ البشرية فهو أمر فريد اختص بكلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويحسن بنا أن نفصل كيفية التوثيق في عهد الصحابة والتابعين دلالة على ما حدث بعد ذلك في العصور التالية وإلى يومنا هذا، حتى يعلم الناس بعض الذي حدث، ودقته، وكيف اتبع المسلمون المنهج العلمي بما لا مزيد بعده من الدقة.
فكان للصحابة –رضوان الله عليهم- عناية شديدة في رواية الحديث ونقله، فرحل جابر بن عبد الله الأنصاري مسيرة شهر إلي عبد الله بن أُنَيْس في حديث واحد [ذكره البخاري في صحيحه]. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : «إني كنت وجارٌ لي من الأنصار في بنى أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلتُ جئتُه بخبر ذلك اليوم من الأمر وغيره، وإذا نزل فعل مثله » [رواه البخاري]. ذلك من قبيل اعتناءهم بكتب السنة التي تضم أحاديث المصطفى، وهي من عالم الأشياء كذلك.
ومن تعظيمهم لعالم الأشياء يعظمون قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن مظاهر تعظيمهم لقبره الشريف ما ذكره ابن كثير ابن كثير رحمه الله، حيث قال : «وقد ذكر جماعة منهم الشيخ أبو النصر الصباغ في كتابه الشامل هذه القصة المشهورة عن العتبي قال : « كنت جالسًا عند روضة النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي فقال السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول : ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ [النساء :64] وقد جئتك مستغفرًا لذنبي مستشفعًا بك إلى ربي ثم أخذ يقول :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه |
|
فطاب من طيبهن القاع والأكم |
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه |
|
فيه العفاف وفيه الجود والكرم |
ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال : يا عتبي الحق الأعرابي فبشره بأن الله قد غفر له. [تفسير ابن كثير 1/521 والبيهقي في شعب الإيمان 3/496].
ونعيد ذكر ما قاله الإمام السبكي في تقديس المسلمين للقبر الشريف حيث قال : «أما المدفن الشريف فلا يشمله حكم المسجد، بل هو أشرف من المسجد، وأشرف من مسجد مكة (يعني بيت الله الحرام) وأشرف من كل البقاع، كما حكى القاضي عياض الإجماع على ذلك، أن الموضع الذي ضم أعضاء النبي صلى الله عليه وسلم لا خلاف في كونه أفضل.. ثم قال : ونظم بعضهم:
جزم الجميع بأن خير الأرض ما قد أحاط ذات المصطفى وحواها
ونعم لقد صدقوا بساكنها علت كالنفس حين زكت زكا مأواها»
[فتاوى السبكي، ج1 ص 278] والذي قال هذه الأبيات هو محمد بن عبد الله البسكري المغربي.
فهو يقدس من عالم الأشياء ما عظمه الله من الكتب التي حوت على الوحي الشريف، والموضع الذي ضم جسد الحبيب صلى الله عليه وسلم، وكل ما اتصل بما عظمه من عالم الأشياء فهو يعظمه.
وعليه فنرى أن المؤمن يعتقد أن للزمان والمكان والأشخاص والأشياء حرمة، وهو يراعيها في تعامله معها، فالمؤمن يدرك أن الله جعل من بين الأزمان أزمانا مباركة وأعلى قدرها، كما جعل من بين الأماكن أماكن مباركة، ومن بين الأحوال أحوالا مباركة، وجعل من بين الأشخاص أشخاصا مباركة، وجعل من بين الأشياء أشياء مباركة، وذلك لأن الله سبحانه هو خالق كل هذه العوالم وهو يختار منها ما يريد له التعظيم والإجلال، قال تعالى : ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص :68].
وترتب على ذلك قضية القسم بما عظم ربنا سبحانه وتعالى، حيث رأى بعض العلماء أنها في الحقيقة تعظيم لله، وأنها ليست من باب النهي عن الحلف بغير الله من آلهة المشركين، فقد نقل ابن حجر عن ابن المنذر قوله : «اختلف أهل العلم في معنى النهي عن الحلف بغير الله، فقالت طائفة : هو خاص بالأيمان التي كان أهل الجاهلية يحلفون بها تعظيمًا لغير الله تعالى كاللات والعزى والآباء، فهذه يأثم الحالف بها ولا كفارة فيها، وأمّا ما كان يؤول إلى تعظيم الله كقوله : وحق النبي، والإسلام، والحج، والعمرة، والهدي، والصدقة، والعتق، ونحوها مما يراد به تعظيم الله والقربة إليه فليس داخلاً في النهي، وممن قال بذلك أبو عبيد وطائفة ممن لقيناه، واحتجوا بما جاء عن الصحابة من إيجابهم على الحالف بالعتق، والهدي، والصدقة ما أوجبوه مع كونهم رأوا النهي المذكور، فدل على أن ذلك عندهم ليس على عمومه ؛ إذ لو كان عامًّا لنَهَوْا عن ذلك ولم يوجبوا فيه شيئًا». [فتح الباري 11/535]
فكان كل ما سبق جزءا من عقيدة المؤمن بتعظيم ما عظم ربنا سبحانه وتعالى، رزقنا الله صدق اليقين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.