سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو جوهرة النفوس وتاج الرؤوس وسيد ولد آدم أجمعين ، ولا يدخل الإنسان دائرة الإيمان إلا بحبه وتعظيمه وتوقيره والشهادة برسالته ؛ فهو أحد ركني الشهادتين ؛ إذ لا يقبل الله تعالى من أحد الوحدانية حتى يشفعها بأنه صلى الله عليه وآله وسلم رسوله إلى العالمين .
وقد عَلَّمَنَا الله تعالى الأدب مع سيدنا محمد صلى الله عليه وآلـه وسلم حين خاطب جميع النبيين بأسمائهم أما هو فلـم
يخاطبه باسمه مجردًا بل قــــــــــال له : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ }، و{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ } .
وأمرنا بالأدب معه وتوقيره فقال : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } ( الفتح 8 - 9) .
ومن توقيره تسويدُه كما قال قتادةُ والسُّدِّيُّ : " وتوقروه " : وتُسَوِّدُوه(1)ُ .
ونهانا عن التقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وحذرنا من رفع الصوت على صوته الشريف صلى الله عليه وآله وسلم أو الجهر له بالقول فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } (الحجرات 1 - 3) .
ونهانا أن نخاطبه صلى الله عليه وآله وسلم كما يخاطب بعضنا بعضًا فقال تعالى : { لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا } (النور 63) .
فكان حقًّـا علينا أن نمتثل لأمر الله ، وأن نتعلم مع حب رسول الله صلى الله عليه وآلـه وسلم الأدب معه ، ومن الأدب أن نُسَوِّدَهُ كلما ذُكِر ، وأن نصلي عليه كلما ذُكِر ، وأن لا نخاطبه باسمه مجردًا عن الإجلال والتبجيل .
وقد أجمعت الأمة على استحباب اقتران اسمه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم بالسيادة في غير الألفاظ الواردة المتعبد بها من قبل الشرع .
أما بالنسبة للوارد : فمذهب كثير من المحققين وهو المعتمد عند الشافعية – حيث نص عليه الجلالان المحلي والسيوطي والشيخان ابن حجر والرملي – وعند الحنفية – كما قال الحلبي والطحطاوي – وبعض المالكية : أنه يستحب اقتران الاسم الشريف بالسيادة أيضًا في الأذان والإقامة والصلاة ؛ بناءً على أن الأدب مقدم على الاتباع ، كما ظهر ذلك في موقف سيدنا علي رضي الله تعالى عنه في صلح الحديبية حيث رفض أن يمحو كلمة ( رسول الله ) عندما أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمحوها ؛ تقديمًا للأدب على الاتباع(1) .
وظهر ذلك أيضًا في تقهقر سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الصلاة بعد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له بأن يبقى مكانه ؛ فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : كَانَ بَيْنَ نَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ ، فَجَاءَ بِلَالٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ ، فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ ، قَدْ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاهُنَا فَأُؤَذِّنُ وَأُقِيمُ فَتَتَقَدَّمَ وَتُصَلِّيَ ، قَالَ : مَا شِئْتَ فَافْعَلْ ، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَاسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَفَّحَ النَّاسُ بِأَبِي بَكْرٍ ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَنَحَّى ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ مَكَانَكَ ، فَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ : " يَا أَبَا بَكْرٍ ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ ؟ " قَالَ : مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " فَأَنْتُمْ لِمَ صَفَّحْتُمْ ؟ " قَالُوا : لِنُعْلِمَ أَبَا بَكْرٍ ، قَالَ : " إِنَّ التَّصْفِيحَ لِلنِّسَاءِ ، وَالتَّسْبِيحَ لِلرِّجَالِ "(2) .
وكذلك فعل سيدنا عثمان رضي الله عنه حيث أخر الطواف لما دخل مكة في قضية صلح الحديبية مع علمه بوجوب الطواف على من دخل مكة ؛ أدبًا معه عليه الصلاة والسلام أن يطوف قبله وقال : « مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم »(1) .
قال العلامة الجلال المحلي : " الأدب مع مَنْ ذُكِرَ مطلوب شرعًا بذكر السيد ؛ ففي حديث الصحيحين : « قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ » أي سعد بن معاذ ، وسيادتُه بالعلم والدين ، وقول المصلي ( اللهم صل على سيدنا محمد ) فيه الإتيان بما أُمِرنا به وزيادة الإخبار بالواقع الذي هو أدب ، فهو أفضل من تركه فيما يظهر من الحديث السابق وإن تردد في أفضليته الشيخ جمال الدين الإسنوي ، وأما حديث « لا تُسَيِّدُوني في الصلاة » فباطل لا أصل له كما قاله بعض متأخري الحفاظ " ا هـ .
وسئل الحافظ الجلال السيوطي عن هذا الحديث فأجاب بأنه لم يرد ذلك ، قال : " وإنما لم يتلفظ صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ السيادة حين تعليمهم كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم لكراهيته الفخر ؛ ولهذا قال : « أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ »(1) .
وأما نحـن فيجب علينا تعظيمه وتوقيره ؛ ولهذا نهانا الله تعالى أن نناديه صلى الله عليه وآله وسلم باسمه فقال : { لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا } " ا هـ .
وفي " مفتاح الفلاح " للإمام العارف بالله ابن عطاء الله السكندري : " وإياك أن تترك لفظ السيادة ؛ ففيها سر يظهر لمن لازم هذه العبادة " ا ه(2)ـ .
بينما يرى فريق آخر من العلماء الاقتصار في الألفاظ المتعبد بها على ما ورد ؛ اتباعًا للفظ وفرارًا من الزيادة فيه .
وقد ألف العلامة الحافظ أحمد بن الصديق الغماري الحسني رحمه الله في هذه المسألة كتابًا حافلاً ماتعًا سماه " تشنيف الآذان بأدلة استحباب السيادة عند ذكر اسمه صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة والإقامة والأذان " جمع فيه كل ما يتعلق باستحباب ذكر الاسم الشريف مقترنًا بالسيادة ، مقررًا أنه لا تنافي بين الأدب والاتباع ؛ لأن في السيادة اتباعًا للأمر بتوقيره صلى الله عليه وآله وسلم والنهي عن مخاطبته كما يخاطب الناس بعضهم بعضًا .
وإزاء هذا الخلاف : فإننا نرى الأمر فيه واسعًا ، وليس لفريق أن ينكر على الآخر في الأمور الخلافية التي وسع من قبلنا الخلافُ فيها ، والتنازع من أجل ذلك لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس ذكره صلى الله عليه وآله وسلم في الأذان والإقامة والتشهد مقترنًا بالسيادة مخالفًا للشرع ، بل فاعل ذلك محمود ومثاب على فعله هذا ، ونحن أحوج إلى حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا العصر من أي وقت آخر ، فنحن في عصر تموج فيه الآراء وتختلف المشارب ، وكثرت الفتن في الظاهر والباطن ، وليس من نجاة من كل ذلك إلا بحب سيد الخلق سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، نعلمه أبناءنا وندعو إليه غيرنا ونبقى عليه إلى أن نلقى الله سبحانه فيشفعه فينا ويدخلنا الجنة من غير حساب ولا سابقة عقاب ولا عتاب ، آمين .
وأما بالنسبة لما يُذْكَر من أن التشهد خطاب من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم فإن هذا أمر ذوقي هو إلى الحكمة أقرب منه إلى العلة ، والأحكام الشرعية منوطة بالأسباب والعلل لا بالأذواق والحِكَم ؛ فإن المصلِّي إنما يقول التشهد على جهة الإنشاء من نفسه ؛ مُحَيِّيًا اللهَ تعالى ومُسَلِّمًا على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ثم على نفسه وعلى عباد الله الصالحين وشاهدًا بوحدانية الله تعالى ورسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا يقصد بتشهده الإخبار والحكاية عما وقع في معراجه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم من خطابه لربه سبحانه وخطاب ربه له صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا المعنى الإنشائي يقتضي من المصلي تسويده أيضًا عليه الصلاة والسلام في الشهادة له بالرسالة عند من استحب تسويده من العلماء ، مع ملاحظة أن ذلك كله على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب
______________________________________________________________
(1) ذكر ذلك الطبري في تفسيره ( 26 / 74 ) ولفظه : عن قتادة {ويعزروه } ينصروه { ويوقروه } أمر الله بتسويده وتفخيمه .
(1) انظر لفظ الحديث بطوله وقصته عند مسلم في كتاب الجهاد والسير ، باب صلح الحديبية ( 1783 ) عن البراء.
(2) أخرجه أحمد في مسنده ( 5 / 331 ) عن سهل بن سعد .
(1) أخرجه أحمد في مسنده ( 4 / 324 ) عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم .
(1) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل ، باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق (2278 ) عن أبي هريرة .
(2) مفتاح الفلاح .